و السر في تعاسة المثقف الحر من الأيديولوجيا ، أنه الوحيد القادر على إدراك حقيقة ما يعانيه مجتمعه من تخلف ، لأن بقية وسائل الإعلام و التعليم و التديين تُجمع على أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان ، و رجل الدين لا يرى في مجتمع المتقدمين أي تقدم ، و يمتدح أوضاعنا الحالية في بلادنا و يراه التقدم الحقيقي ، بدليل انتشار الحجاب و النقاب و اللحية و الزي الباكستاني ، يمتدح العودة للتفكير حسب زمن القرن السابع الميلادي ، حيث خير القرون ، بل أن أهل البلاد المتقدمة يعضون علينا الأنامل من الغيظ لما حبانا الله به من عزة و كرامة بالإسلام . و ما نراه على المتقدمين و ما يصلنا من علمهم و ابتكارهم و علاجاتهم و وسائل رفاهتهم هو كله تقدم زائف أدى إلى تخلف المجتمع بدلاً من تقدمه ، فتحلل المجتمع و تفككت الأسرة و انتشر الفجور و عمت الرذيلة و ضاعت الأخلاق و انحطت القيم ، فأهل الغرب المتقدم بكل علومهم و فنونهم و نجاحاتهم هم في الحضيض بين المجتمعات ، أما نحن فأهل القمة ، بل نجلس فوق القمة ، و هي القمة التي يراها المثقف الحر رأس خازوق عظيم .
و لك هنا أن تعجب من بجاحة هذا المنهج العليل في التفكير و صوته العالي في الشأن القيمي و الأخلاقي ، بينما لديه زنى شرعي بألوان زواج لا تشكل أسرة ، و لديه اغتصاب شرعي لركوب ملك اليمين و الإماء و الزوجة الطفلة ، و لديه الجنة و إن زنى و إن سرق ، و له ارتكاب كل المعاصي بشرط غسلها بالحج أو بالتوبة أو باحتمال بعض العذاب الأخروي الذي سيدخل بعده الجنة حتماً ، فقط لأنه شهد للإله بأنه الإله و أن محمداً نبيه و رسوله ، و هو كله ما لا علاقة له بقيم ، أو بأخلاق .
و مع انتشار أجهزة الإعلام الحديثة ، و عدم الرغبة في تحصيل المعرفة من مصادرها السليمة لأنها لا لزوم لها ، فلدينا القرآن و بعده البخاري ، أصح كتابين على الأرض و كفى ، تراجعت عادة القراءة في بلادنا و تقزمت ، فذبل العقل و عطبت وظيفة التفكير ، و هذه الأدوات الإعلامية المتقدمة التي صنعها أهلها لمزيد من التثقيف و التعليم ، نستخدمها في بلادنا لتكريس منهج التلقين الجاهز للمحفوظات لوقف استخدام العقل ، فكان أن تزايد عدد مثقفي التلقي و المحفوظات لتصبح طبقة الغوغاء و الدهماء هي الأكثر عدداً و حضوراً ، و هم ليسوا في حاجة إلى معرفة ، و مع تخلي العقل عن وظيفته تحولوا إلى بسطاء في الطاقة العقلية و الاستيعابية للمعارف ، حتى أنهم ينفرون حتى من التلقي التلفازي و يعزفون عن متابعة المشاهدة إذا كان المطروح عليهم بحاجة للتركيز و الفهم و المتابعة الدقيقة ، و مما ساعد على تلك الكبوة النكراء لمجتمعاتنا خاصة المصري الذي أعرفه ، هو الانهيار الاقتصادي الناتج بالضرورة عن سوء السياسات ، مما أدى لانهيار مماثل في أسلوب التعليم ، مع التكاثر الأرنبي الذي عمل عليه المشايخ بالقرآن و الحديث ليفاخر بنا نبينا الأمم ، و تقدم علوم الطب التي أدت لتراجع نسب وفيات الأطفال ، فلم تعد المدرسة تتسع لهم ، فكان أن تم وضع ثلاث وجبات طلابية لمدارس ثلاثة على التتابع في مبنى مدرسي واحد ، في عملية سلق سريع اختفى معها المختبر و التجربة و العمل الذهني ، لما يضيعه من وقت غير متوفر ، و اختفت معه كل المنافسات الرياضية بين فرق الطلاب ، و كذلك الهوايات كالمسرح المدرسي الذي نشأنا على ضرورته على الأقل للاحتفال بالتفوق في نهاية العام بحفل غنائي ، و غاب الغناء المحرم و غابت معه الموسيقى و كل الفنون بأخلاقياتها و قيمها و قدرتها على تهذيب الروح و السمو بالقيم ، و تحول التعليم إلى محفوظات سريعة ، فلا وقت للشرح ، مما قضى مبرماً على ملكتيّ التفكير و الابتكار ، ليخرج هؤلاء من المدارس أسوأ خلقاً و أقل معرفة ممن علمتهم الحياة عبر الصواب و الخطأ ، من الأميين الذين نجد بينهم حكماء ، لا نجدهم أبداً بين خريجي مدارسنا أو أزهرنا المبارك .
و هؤلاء الغوغاء هم صفوة جمهور مشايخ الإسلام اليوم ، و عندما يستثمر رجال الدين هذه الحالة لتكريسها من أجل سيادتهم على هذا الشارع الجهول و التكسب على حساب جهالته ، فإنهم يرتكبون أسوأ ألوان الشرور طُراً .
فجعلوا من الدين مصدر كل معرفة أو ثقافة ، و الدين طاعة لا مناقشة فيه ، و من ثم تم وأد ملكة النقد ، و تراجع القياس و التقدير لغياب المفاضلة ، حتى المشايخ أخضعوا أنفسهم لذات المنظومة و الفكرة ، فمع ظهور قضايا جديدة لم يعرفها الدين و لم يسبق أن وجد مثيل لها و ما كانت متوقعة ، يقدم رجال الدين تأويله للدين او للقضية ، ليعيد تشكيل المشهد الجديد ليظهر شبيهاً بالمحفوظات عن الأسلاف ، فليس للعقل أن يبحث إلا في المدونات الإسلامية حيث كل الحلول و الإجابة على كل سؤال ، و ليس للعقل أن يضع من عنده شيئاً ، لأنه سيكون وضعياً ، و الوضعي فساد و مروق و اتهام مباشر للمدونات التراثية و محفوظاتها بالقصور و أنها لم تعد مقبولة عقلاً ، لأن التفكير و المفاضلة و النقد و التقدير و التمييز بين حلول كثيرة ، سيدخل الدين تحت هذه الأدوات الثقافية مما ينزع عنه القداسة المصمتة ، حيث سيتم إبداء الرأي في أحد مكوناته .
لذلك يحاربون الجديد حتى لو كان علماً ضرورياً لابد من تقبله ، لأننا إن قبلناه فالمعنى أن نترك التفسير الديني له و نستغنى عن هذه الأواني الحافظة و محفوظاتها .
و تكون النتيجة خروج السيادة المجتمعية و الرفاة و السلطان على الناس من أيدي الشيخ إلى العقل و منهج التفكير العلمي ، لذلك يتم طرد داروين و تسفيه فرويد و السخرية من الحلول العلمية. ولأن المجتمع قد تم ترحيل معظمه إلى طائفة الغوغاء بما فيهم أساتذة جامعات و إعلاميين تحولوا إلى مشايخ للغوغاء ، فإن الناس لا تقرر و لا تفكر و لا تجيب و لا تقدم حلولاً ، و يبقى الدور كله بيد رجل الدين الذي سيختار لهم من متعدد من ذات المحفوظات ، حيث كل الإجابات التي اجتهد عليها السلف كل الاجتهاد حتى أنهم لم يتركوا شيئاً للسلف ليبحثوا فيه ، في أساطير تسمى علوماً كعلوم الفقه و كتب الفتاوي و الموقعين عن رب العالمين .
إن المتابع لطبقة أدعياء المشيخة و الدعاة على القنوات الأرضية و الفضائية ، سيلحظ بغير مشقة أن هدف هؤلاء ليس الارتقاء بمجتمعهم بل السيطرة على غوغائه ، و تحويل الغوغاء إلى طاقة قوة حاضرة في المجتمع يحتسب لها حساب ، فيجعلهم أصحاب يد طولى ، تجد منهم صحفيين و إذاعيين و إعلاميين يتقاضون أعلى الرواتب و هم مجرد غوغاء . و ذلك ليتم توظيفهم سياسياً عند الطلب ، و مثل هؤلاء هم مشكلة حقيقية لأنهم لا يعلمون أنهم غوغاء .
و يميل الغوغاء إلى تقدير القوة العضلية و توظيف قدرتهم البدنية التي تجلب لهم الفخر أكثر من أي قدرات عقلية لا يؤمنون بجدواها ، و يعتمدون في حل مشاكلهم على مشايخهم و فتاواهم لاعتقادهم بأن أي معرفة قاصرة على هؤلاء ، لذلك أطلقوا على المشايخ لقب (العلماء) لامتلاكهم أصح العلوم و هي علوم الدين الحاوية لكل المعارف ، و يقنع الغوغاء بهذه المرجعية و يطلقون لأنفسهم غرائزهم بعد أن يردد أحدهم لزميله " حُطّها في رقبة عالم ، تطلع سالم " ، و بالتالي الإخلاء التام من المسئولية عن سلوكهم في المجتمع ، فيعيشون سعداء بدون تفكير و لا مسؤلية و يسعدون و يحبون الشيخ لأنه يحترم تفكيرهم البسيط و لا يعيبه عليهم و لا يكلفهم جهداً عقلياً ، بل هو يغذي حبهم للخرافة و الأسطورة و المعجزة و البطولات ، و تسمع تهليلات الحمد و التكبير عند الحديث عن شئ معجز أو بطولة عضلية إسلامية ، يحبون الإبهار و تعطيهم معجزة الانتصار في القصص التاريخية على أعداء الدين إحساساً بالمتعة ، و أنهم منصورون كما انتصر السلف و هم قلة أذلة بالتدخل الإعجازي ، مضافاً إلى هذا زخم المشهد الروحي داخل المسجد و صوت آمين الموحد و الصفوف المرصوصة بعبادة طقوسية مُيسرة و مفهومه . لذلك يتماهي الغوغائي بالمقدس و النبي و بالرب و بالقعقاع و محمد بن القاسم ، و يثور لأي حديث لا يعجبه بشأن مقدسه لأنه يشكل إعتداء شخصياً عليه ، و لا يدرك أن تحركه العنيف لحماية مقدسه إنما يعني عجز هذا المقدس عن حماية نفسه
و هكذا فإن الغوغاء قوة لا يستهان بها ، فهم يتميزون بالإمكانات العضلية و ضمور الإمكانات العقلية ، فتقوى قدرتهم على إحداث الشغب و القلاقل المجتمعية ، بأساليب تخلو من الحياء و الخجل ، و يميلون إلى حياة الفوضى بما يملكون من غرائز غير محكومة بقيم الضمير السليم ، فينفعلون بشدة لأي فعل . و من هنا يقدرون من يقدرهم ، و يقدر ممكانتهم البدائية فيقدمونه و يرفعونه ليمهد لهم طريق الجنة ، و يعوضهم عن شقاء دنياهم ، فتتم للشيخ السيطرة على أفعالهم باحتلاله مكان العقل لديهم ، و يدفع أكثر نحو تعجيزهم حتى يعجزون عن اتخاذ أي قرار من أنفسهم لأن السيئة من أنفسنا و الحسنة من الله و رجاله في الأرض ، فيرجعون للشيخ في كل كبيرة و صغيرة و في كل تافه ضئيل لا يحتاج جهداً عقلياً ، و يطلبون النصح و الإرشاد في التوافه الهينات مع ضمور ملكة التفكير و موت العقل ، ذلك الموت الذي يصرخ بالجريمة الكاملة لمشايخنا من أجل حبهم للدنيا و ليس للناس و ليس للدين .
و عملاً بمبدأ (رغبة الجمهور) ، قام المشايخ يختصرون الدين في مجموعة طقوس و أدعية جاهزة ، تؤدي كل المطاليب ، جالبة للخير و مساندة للرب ، ساعية بالبركة تسأل الله أن يتولى شئون هؤلاء التعساء بنفسه ليفعل المطلوب بدلاً منهم ، فيهزم لهم الأعداء و يدك لهم الحصون و ينهب لهم ثرواتهم و يمكنهم من عيالهم و نسائهم و يصيبهم بالطواعين و المهلكات . مع مجموعة أدعية لا تكلف مشقة غير حفظها و ترديد المناسب منها عند الحاجة ، فمنها ما يبعد الشرور ، و منها ما يقي من العين الحاسدة ، و منها ما يبعد الفقر و المرض . دون أي عناء أو جهد من المؤمنين للتفكير في حل مشاكلهم بأنفسهم. هذا إضافة إلى وضع القواعد التي تنشئ تواصلهم مع ربهم ليتفهمهم و يستجيب لمطالبهم ، فيسير المؤمن الغوغائي وفق جدول محكوم كالروبوت الآلي ، يخضع لأوامر تسيّره فيما يلبس أو على أي جنب ينام و ماذا يقول عندما يتثاءب أو يعطس (يسمونه تشميت العاطس) ، و بماذا يرد عليه من حوله ، و كيف يبول أو يشرب و ماذا يقول بعد ذلك من حمد ، و كيف يتغوط او يأكل أو يَنكح أو يُنكح ، فكلها علامات تأكيدية كلما زادت و حرص عليها المؤمن كلما أعطى ربه الفرصة لتمييزه و فرزه عن بقية خلقه ، هي علامات لتمكين الرب من تمييز عبادة الصالحين عن غيرهم من غير الصالحين .
و مع انتشار الفضائيات و وسائل الإعلام بدأت المنافسة بين المشايخ و بعضهم ، لذلك يسعي كل منهم إلى تقديم أجود ما عندهم لمتطلبات السوق ، و من ثم يتم اخضاع الدين لآليات الاقتصاد السوقي حسب قانون العرض و الطلب ، لنيل إعجاب المستهلكين ، فينحدر الخطاب الديني إلى مستوى شعبولا و مُغني الخضروات و الحمير ، إلى مستوى غوغاء الشعب الدهماء من أصحاب الذوق المتدني غير الرهيف و غير الرفيع ، يستهويهم الخبط و الرقع و الصوت العالي و الخرافة و الأسطورة ، فيهبط الشيخ بالدين من مكانه السامي لمستوى طلب المستهلك ، ليرضيهم بمنتجه سعياً لمزيد من الانتشار و الانتصار في المنافسة. يهبط بالدين لمستوى ذوق العوام بمحسنات تعجبهم بينما هي تشينه و تشوهه ، لأن الإسلام بصورته البكر على وفاق مع زمنه و مجتمعه و لم يكن بحاجة لدعاة ومغيثين و تزويق و مُحسنات لونية ، و عندما يصبح هدف الدعاة هو الحشد العددي للأتباع ، فقل على الدين و الدنيا السلام . لأن هذا الحشد جاء على حساب سمو الدعوة ، و تسطيح الإسلام و اختصاره في شعارات سهلة الحفظ و الفهم لا تحتاج جهداً عقلياً لمحاورتها أو مناقشتها أو التأكد من مدى صحتها .
و هكذا تجد الشيخ لا يستحي أن يتحدث عن نفسه كنجم محسود (مثل الشيخ خالد عبد الله ، نجم قناة الناس) ، رجل الدين صار يسعى ليصبح نجماً فنياً إزاء منافسة شديدة من فنانين آخرين ، لذلك يبذل كل جهده ليستهوي الجمهور ، بزي مميز ، بإسلوب خطابة رنان مسجوع ، بطريقة في الإلقاء تقطع و تصل و تصمت و تصرخ و تجأر و تبكي و تسخر في تمثيلية مُحسنة الترتيب ، و بجرأة من يملك وحده المعرفة المطلقة و النهائية الصحيحة ، و التي يجهلها الجميع ، و يجب على أي سؤال ، و يشرح كل غامض .
و يعزز الدور الفني للشيخ توزيع الإضاءة في الأستوديو و للديكورات الفخمية و المؤثرات التصويرية و الصوتية الملائمة لطبيعة الموقف شاعرياً أم حزيناً ، الخطاب عن الجنة له إخراج ، و الخطاب عن النار له إخراج ، و كلما أنتشر اسم الشيخ زاد توزيع مطبوعاته و إيراداته و تهافتت عليه الفضائيات بعظيم رزقها و ابهتها و جاءته الهدايا و النفحات من كل صوب ، في مقابل تحويل إسلامنا إلى سلعة شعبية كالأغاني الشعبية المتدنية و الهابطة ، و ليته كان شعبياً كما كان ( مصرياً ) بأوليائه الصالحين و موالدهم و كرنفالاتهم ، فقد اختفى التدين الشعبي المصري الحقيقي أمام مسخ شائه حرّم كل العلوم و الفنون ليبقى هو العارف الوحيد و العازف الوحيد
Source:
Les commentaires récents